المحور الثالث: العلاقة مع الغير:
يقول ميشال تورني: «لقد توصلت الأن إلى قناعة مفادها،
أن الأرض التي عليها تطأ قدمي تحتاج إلى الغير، كي لا تهتز، إلى الأخرين غيري
ليعمروها. إن الحضن الأكثر أمانا ضد الوهم البصري، وضد الاستيهامات، وضد حلم اليقظة،
والهذيان، واضطراب السمع... هو أخونا وجارنا، وصديقنا أو عدونا، مهما كان هذا
الغير"
إذن فهل يمكن لمعرفة الغير أن تؤدي إلى قيام
علاقة معه؟ وهل حاجتنا الملحة إلى الغير
تدفعنا إلى ربط علاقة إيجابية معه؟ وماهي طبيعة العلاقات الممكنة مع الغير؟ فما طبيعة العلاقة مع الغير هل تقوم على التكامل والحب والصداقة أم
الصراع والتنافر والحرب؟ وكيف يمكن التأسيس لعلاقة إنسانية بين الغير والأنا؟
علاقة الصداقة:
أرسطو: الصداقة أساس العلاقة مع الغير
يؤكد أرسطو على أن الإنسان مدني بطبع، يميل إلى العيش في مجتمع ومع الآخرين، فالإنسان تربطه مع الآخرين الذين يعيشون معهم في المجتمع علاقة الصداقة، حيث هناك ثلاثة أنواع من الصداقة: صداقة المتعة وصداقة المصلحة وصداقة الفضيلة.
لكن الصداقة الحقيقية عند أرسطو ليست صداقة المنفعة ولا صداقة المتعة التي تكون غايتها تحقق المصلحة ثم تنتفي، ولكن الصداقة المقصودة هي صداقة الفضيلة التي يكون أساسها الحب ذلك الإحساس الفطري الذي جبل عليه الإنسان والذي تكون غايته في ذاته، وليس مجرد وسيلة.والمشرعون يشتغلون على الصداقة أكثر من اشتغالهم على العدل، لأن غياب الصداقة من المجتمع يجعل العدل فارغا من معناه لكونه يصبح عبارة عن قوانين ونواميس آلية فقط، لا تساعد في تعزيز العلاقات الإنسانية، القائمة على التسامح والتعاون والتبادل.
إيمانويل كانط:
يرى كانط أن الأنا
والغير يرتبطان عبر علاقات الحب والاحترام، وأكثر وتضحية وإيثار وهي قيم أخلاقية
تساهم في بناء الوجود المشترك، حيث يدعو إلى إقامة علاقة مع الغير تتأسس على مبادئ
وقيم أخلاقية تبني علاقات إنسانية سامية. وإذا تناولنا الصداقة من جانبها
الأخلاقي في العلاقة مع الغير، نجد أن من واجب الصديق تنبيه صديقه إلى
أخطائه كالما ارتكابها، وكل ذلك من أجل الخير له.
ومن هنا يرى كانط أنه لا يجب أن تقوم الصداقة على منافع مباشرة ومتبادلة، بل يجب أن تقوم على أساس أخلاقي خالص. هذا الأمر تمثله الصداقة باعتبارها رابطة حب واحترام اتجاه الغير في إطار الواجب الأخلاقي الذي يقتضي احترام الذات والغير كتجسيد لاحترام الإنسانية. كذا تخرج الذات من ذاتها لتنفتح على الغير وتتجاوز أنانيتها إلى الغيرية حيث تؤثر الغير وتضحي وتحيا من أجله.
المناقشة: علاقة الصرع
إلى أي حد يمكن القول أن العلاقة مع الغير تقوم على الصداقة والحب والاحترام؟ أليس بامكاننا القول أن الصراع هو أساس العلاقة مع الغير؟ أليس الصراع هو الفاعل الأساسي في المجتمع المعاصر لكن هل يقوم الوجود البشري على علاقة الصراع والتنافر بين الأنا والغير أم هناك أوجه أخرى لهذه العلاقة؟هل يشكل الصراع أساس العلاقة مع الغير؟ وكيف يقود الصراع إلى قيام مجتمع الاعتراف بالأخر؟
فريدريك هيجل:
يرى هيجل أن العلاقة بين الأنا والغير قائمة على
الصراع الذي يؤدي في النهاية إلى تفاعل الذوات الإنسانية ودخولها في علاقات جدلية، حيث أن الذات لن تأخذ مكانها في الوجود إلا باعتبار أحدهما السيد والآخر
العبد.
يخاطر السيد بحياته حتى
الموت مما يجعله سيدا في حين العبد يهاب الموت فيلجأ إلى الشغل، فإذا كان السيد
يجعل الموت هو ثمن الحرية، فالعبد يجعل ثمنها شغلا، لهذا فكل تقدم تاريخي لا يتم
إلا بواسطة العبيد، لأن الحرية فعل منتزع، هناك تحرر وهناك استعباد مما يعني صراع
بين السيد والعبد.
هذا الصراع مستمر في الزمان والمكان بما أن كل
ذات تسعى إلى انتزاع الاعتراف بشكل دائم، يقود إلى العلاقة مع الغير يسود فيها الصراع
والصدام والهيمنة (قوة-سيادة-سيطرة) وهي جوهر الوجود البشري العلائقي التفاعلي.
لأن تطور تاريخ البشرية
يجسد حسب هيجل وكوجيف في سعي العبد التدريجي إلى نفي عبوديته، وهذا أمر شاق، لهذا
يقول كوجيف: "إن التحقيق التدريجي لهذا الوجود لا يمكن أن يتم هو الآخر إلا
بدلالة هاته العلاقة الاجتماعية الأساسية".