مفهوم الدولة: طبيعة السلطة السياسية.
الطرح الإشكالي:
إن الحديث عن طبيعة السلطة السياسية يقودنا إلى الحديث عن أجهزتها وإستراتيجيتها عملها وخططها، ومدى التحول الذي أصاب سلطتها وعملها. ففي القديم كان الكل يعرف مركز السلطة التي كانت في أجهزة متعالية عن الرعية، أما في عصر تحولات السلطة أصبح من المستحيل الحصول على مركزها وآليات اشتغالها، إنها أفقية بالقدر الذي هي عمودية، إنها مركزية بالقدر الذي هي مشتتة في كل مكان، مركزية ولا مركزية. هذا ما يقودنا إلى طرح مجموعة من الأسئلة:
ما طبيعة السلطة
السياسية؟ هل السلطة مجموعة من الأجهزة المركزية المتعالية أم أدوار واستراتيجيات وخطط
لا مركز لها؟ هل السلطة أفقية أم عمودية أم هما معا؟ هل السلطة السياسية مركزة في
أجهزة سياسية وإدارية محددة وتراتبية أم هي استراتيجيات وخطط وطاقة أفقية وعمودية
تطال الجسم الاجتماعي كله؟
1- موقف ميكيافيلي : حدود دور الأخلاق في السلطة.
يعتبر كتاب "الأمير" لنيكولا ميكيافيلي من أشهر كتب السياسة وأكثرها إثارة للجدل بسبب حساسية موضوعه المتمحور حول مختلف الأدوات والأساليب التي تمكن رجل السياسة أي "الأمير" صاحب القرار من الحفاظ على سلطته وضمان تحييد خصومه أو منافسيه المحتملين، ويرى ميكيافيل أن السياسة مجال للصراع بين مصالح الأفراد والجماعات. وبناء عليه وجب على السياسي "الأمير" إن أراد التحكم في الصراع والحصول على السلطة والبقاء فيها أن يستخدم كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة وهو ما عبر عنه ميكيافيلي بضرورة المزاوجة بين ذهاء الثعلب وقوة الأسد.
2 - موقف لوي التوسير: الأجهزة الايدولوجية والقمعية في الدولة
برجوعنا إلى
الفكر الإرث الماركسي نجد ماركس قد تصور السلطة على شكل هرمي، فالدولة وأجهزتها
توجد على رأس الهرم الاجتماعي، ترتكز هذه السلطة في مجموعة من الأجهزة الموحدة
التي تفرض قانون الأقوى وتصوراته بالعنف بشكل أو بآخر، هذه الأجهزة موحدة ومنظمة،
ومتمركزة تتخذ شكلا عموديا من أعلى إلى أسفل، تتدخل بالعنف للقضاء على التمردات أو
الثورات أو كل ما قد يهدد سلطتها... إنها أجهزة تعبر بشكل صريح وواضح عن مصالح
الطبقة المسيطرة وتتجلى في الحكومة، الإدارة، الجيش، الحاكم، السجن... إلخ. لكن
بالإضافة إلى الأجهزة القمعية التي ذكرتها الأدبيات الماركسية هناك مجموعة من
الأجهزة المشتتة في الجسم الاجتماعي والتي لا تقل أهمية عن الأجهزة القمعية.
إنها الأجهزة الإيديولوجية التي تشكل عددا من جوانب
الواقع التي تمثل أمام الملاحظ المباشر على هيأت مؤسسات متميزة ومتخصصة، إنها
مؤسسات تحتية محايثة للواقع لا متعالية عنه ومن بينها الجهاز الديني والجهاز
العائلي والمدرسي والقانوني، والسياسي والنقابي والإعلامي... إنها كل الأجهزة التي لا تشغل بالعنف، بل
بالفكر، بالمعرفة والاعتراف بالتربية والتلقين والتعليم.
حيث تختلف الأجهزة الإيديولوجية عن الأجهزة القمعية في
عدة نقط، فهذه الأخيرة موحدة، فوقية، عمودية، في حين الأولى مشتتة، متعددة تسري في
الجسم الاجتماعي برمته، هذه مؤسسات خاصة لكنها في حقيقة الأمر تحقق ما لم تستطع
الأجهزة القمعية تحقيقه، حيث تعمل على ترويض وتدجين وتلقين وتعليم الأفراد وتهذيب
سلوكهم بشكل غير مباشر، إنها تعمل على دمجهم في نسق السلطة القائمة، وبالتالي
تخضعهم لها بدون عنف مفرط سافر هذه هي وظيفتها.
3- موقف ميشيل فوكو: نحو تشظي مفهوم السلطة
"أن السلطة موحدة
ومركزة في أجهزة قمعية متعالية".
يمكن
اعتبار الفيلسوف الفرنسي میشل فوكو أحد أهم الفلاسفة الذي ساهموا في تفكيك مفهوم
السلطة وإعادة صياغته ليشمل، مختلف علاقات القوة الموجودة خارج إطار الدولة كمجال
لممارسة السلطة السياسية والذي من خلاله يتحدد التعريف الكلاسيكي لمفهوم السلطة
إن
تفكيك مفهوم السلطة وإعادة تعريفة أدت إلى تشطي هذا المفهوم وعدم اقتصاره على
دائرة السياسي فالسلطة عند فوكو تعني علاقات القوى المتعددة التي تكون محايثة
للمجال الذي تعمل فيه تلك القوى إنها حركة تحول تلك القوى وتقلب موازينها بفعل
الصراع المستمر وهي (السلطة) من ناحية أخرى تتجلى في مجموع الاستراتيجيات التي
تفعل تلك القوى فعلها.
إن السلطة كاسم تحمل خلفها سر وجودها، إنها استراتيجيات
وخطط وذرات مشتتة في المجتمع، هذا ما دفعه إلى البحث في سرها بعيدا عن الهرمية
الفوقية والجهاز الحاكم، بل في القاعدة وفي مناطق مجهولة لا يظن أحد أن فيها سلطة.
يريد خلق خريطة طبوغرافية جديدة للسلطة كما هي سائدة في المجتمعات الغربية
الحديثة، هذه الخريطة الطبوغرافية لا تعترف بأي مكان متميز للسلطة، ذلك أن السلطة
تبدو مبعثرة في أمكنة شتى من الجسم الاجتماعي.
إن السلطة كما تصورها "فوكو" تشكل بؤرة سلطوية أو مراكز سلطوية يدعم بعضها البعض وتغطي جسد المجتمع من بدايته إلى أقصاه وفيها تمر الجماهير أرواحا وأجسادا لكي تصبح مدجنة طائعة سهلة الانقياد. وبناء عليه يخلص فوكو إلى أن السلطة حاضرة في كل مكان، ولا يمكن رصدها إلا من خلال حالات تتولد عند القاعدة المتحركة لعلاقات القوى الغير المتكافئة في كل فضاءات المجتمع.
تركيب المحور:
نستخلص من
قراءتنا التركيبية للمواقف السابقة أن ظاهرة السلطة لا تنحصر في المجال السياسي
لوحده بل إنها ظاهرة محايثة لكل فضاءات المجتمع التي تؤطره علاقات بين قوی
متفاوتة، حيث يمكن الحديث مثلا عن سلطة أبويه، (يمارسها الأب على الابن) سلطة
معرفية (يمارسها العالم على غير العالم) سلطة تربوية، سلطة دينية، سلطة أخلاقية،
علمية، اقتصادية...الخ وإذا كانت السلطة السياسية أكثر أشكال السلطة شيوعا لدى
الناس فإن ذلك يعود إلى طابعها المؤسساتي الذي يمنحها بعدا ماديا أكثر من مظاهر
السلط الأخرى.